مدخل إلى علم النفس الصحي
زاد الاهتمام بعلم النفس الصحي في السنوات الأخيرة، لهذا ققررنا في هذه السلسلة من المقالات، تقيم مجموعة من المحاور التي تسعى إلى التعريف بعلم النفس الصحي، واستمداداته وأهم المفاهيم المجاورة لمفهوم الصحة.
الصحة والمفاهيم المجاورة لها
يسعى علم النفس الصحي باعتباره فرعا من فروع علم النفس لتطبيق المفاهيم والمعارف الأساسية في علم النفس وذلك من أجل فهم الصحة والمرض.
وقد عرف تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث انتقل من دراسة العوامل النفسية والاجتماعية التي يمكن أن تساهم بدء الأمراض وتطورها، ومن البحث في العوامل الإيجابية على الصحة كجودة الحياة، والرفاهية، والسعادة...؛ إلى تطوير مفاهيم ونماذج نظرية تسعى، بالتعاون مع تخصصات متعددة، إلى المساهمة في الوقاية وتعزيز السلوكيات الصحية وتقليل السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، وتحسين رعاية المرضى وتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية وتحسين أنظمتها، وذلك من خلال اجراء دراسات على المرضى، والقائمين عليهم وعلى عموم السكان في سياقات مختلفة كالمدرسة، ومكان العمل...
وسيتركز الاشتغال في هذا المقال على بيان:
- أصول هذه المفاهيم،
- سياق تطورها،
- مختلف المفاهيم المرادفة للصحة.
في هذا المقال سيتم التركيز على أصول المفاهيم، وجانب من سياق تطورها.
1. أصول المفاهيم:
زاد الاهتمام بمفاهيم الصحة مثل الرفاهية والسعادة والرضا وجودة الحياة بشكل كبير منذ الستينيات والسبعينيات؛ حيث ظهر مفهوم جودة الحياة أول مرة في نهاية عام 1950، وكان ظهوره الرسمي أول الأمر في حوليات الطب الباطني في عام 1966، ليصبح مفهوما شائعا تهتم به مجموعة المجلات العلمية المتخصصة، وتجسد استخدامه كأول كلمة رئيسية بشكل ملحوظ؛ حيث ارتفع من صفر إلى عدة آلاف (Kaplan and Ries ، 2007). وعرف ظهوره تطورا كبيرا في أدوات قياس النتائج الصحية للمرضى، في حوالي خمسمائة منها (Emery و Perrier و Acquadro ، 2005).
ومن المهم الإشارة إلى دور السياق التاريخي والاقتصادي في بروز هذه المفاهيم التي ظهرت كنتيجة لتقييم الظروف المعيشية من خلال استخدام مؤشرات معينة كمستوى التعليم، ومتوسط العمر المتوقع...؛ كما يشير بوغنار (2005، ص 561-566) وكذا جراء استخدام المؤشرات الاجتماعية لتوجيه سياسات الصحة العامة الوطنية.
هذا بالإضافة الى دور الدراسات الاستقصائية المهتمة بمستوى المعيشة وصحة السكان مثل (INSEE ، INED ، مرصد عدم المساواة ..)والدولية (الاتحاد الأوروبي ، منظمة الصحة العالمية ، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ، الأمم المتحدة ، البنك الدولي) في ابراز هذا المفهوم.
غير أنه بداية من الثمانينات تم انتقاد هذه المؤشرات، فقد اعتُبرت عامة جدًا ومبسطة إلى جانب أنها تهمل الجوانب النوعية للرفاهية (السعادة، والرضا ...) وهي التي تتوافق مع تقدم اجتماعي حقيقي.
2. تطور المفاهيم والتخصصات المعنية
جودة الحياة من المفاهيم المعاصرة التي برزت في الثمانينات والتسعينات والتي نجحت في استبدال المفاهيم المجاورة ودمجها (السعادة، الرضا عن الحياة، الرفاهية، الصحة).
وهو مفهوم يتعلق بالعديد من التخصصات (الطب، وعلم الأوبئة، والصحة العامة، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، وعلم النفس الصحي، وما إلى ذلك).
قد تبدو فكرة جودة الحياة واضحة وبسيطة؛ لكنها في واقع الأمر معقدة. وتختلف اختلافًا كبيرًا اعتمادًا على ما يتم التركيز عليه في التعريف: هل الجوانب الموضوعية كالظروف ومستوى المعيشة والحالة الصحية...؟ أو الجوانب الذاتية كالرضا والسعادة والرفاهية الذاتية؟ أم الكل أم المكونات: البدنية (الحالة الوظيفية، الصحة العضوية)، العقلية (الصحة العقلية) أو الاجتماعية (الشبكة العلائقية، الموارد الاجتماعية).
وسنقوم بفحص هذا المفهوم، وتعريفاته، ومجالاته ومكوناته، وطرق التقييم العامة والخاصة.
1.2 وجهة النظر الفلسفية:
أ. ارسطو: الرفاهية حسب ارسطو هي الرغبة في أن نكون سعداء وهي الرغبة الأسمى لكل إنسان.
ب. التقليد الفلسفي الغربي: ينقسم الى مدارس فالمتفائلين تكون السعادة بالنسبة لهم حالة من الرضا التام، الممكنة (سبينوزا ، مونتين ، ديدرو)، وحتى سهلة (أبيقور) أما المتشائمين، فبعضهم يراها صعبة التحقق (روسو)؛ بل وربما مستحيلة (باسكال، شوبنهاور، فرويد)
ج. الأبيقوريون وأتباع مذهب اللذة وبعض التجريبين (جون ستيوارت ميل): يربطون السعادة بالبحث عن المتعة التي تؤدي إلى الشعور بالامتلاء، والقرب من السعادة. ويعارضهم آخرون، مثل كانط، الذي يربط السعادة بالأخلاق.
د. الرواقيون: يرون أن السعادة هي طموح إنساني أساسي؛ لكن هذا المسعى مصدر إحباط، وينصحون بتجنب السعي وراء المتعة والتخلي عن السعي وراء السعادة.
هذا؛ ويعتقد العديد من المؤلفين أن المواقف الفلسفية الصريحة أو الضمنية لا تزال تكمن وراء المفاهيم والمقاييس الحالية لنوعية الحياة (Bognat، 2005 p.565-578؛ Cummins، 2005، p.699؛ Rapley، 2003، p.22)
2.2 وجهة النظر الطبية:
إن الأطباء والباحثين في الصحة العامة وعلم الأوبئة والطب النفسي هم الذين سيضمنون نجاح مفهوم جودة الحياة، وسيدمجون فيه في النهاية المفاهيم ذات الصلة (الرفاه، الصحة، السعادة، الرضا...) حتى يصبح واسعا للغاية ومعقدا. على الرغم من أن معايير الصحة/ المرض البسيطة قد تم قياسها في البداية (المراضة والوفيات وطول العمر)، بما يتوافق مع النموذج الطبي الحيوي السائد منذ فترة طويلة. انظر ( Leplege ، 1999 ، 2008).
لقد أدى التقدم الطبي - علاج الأمراض المعدية على وجه الخصوص وكذلك في الأمراض المزمنة المختلفة ذات العواقب الجديدة والمتعددة - إلى زيادة طول عمر السكان، والتأثير الإيجابي على رفاهية المرضى. مما أصبح معه من الضروري بناء أدوات لتقييم الأثر الجسدي والعقلي والاجتماعي لمختلف الأمراض؛ مما سيؤدي إلى ظهور معنى جديد وهو (جودة الحياة المتعلقة بالصحة HRQOL)؛ والذي يتوافق مع تداعيات الحالة الصحية على جوانب الحياة الأخرى. وبناء عليه سيتم أحيانًا تقييم جودة الحياة المتعلقة بالصحة بشكل عام (باستخدام نفس العناصر للجميع)، وأحيانًا على وجه التحديد (عناصر "مصممة خصيصًا" لأمراض أو مرضى معينين).
يتم بشكل متزايد تقييم تأثير الأنواع المختلفة من العلاج للأمراض المزمنة من حيث النوعية (رفاهية المرضى) وليس من الناحية الكمية (عدد سنوات العمر المكتسبة). بالنسبة لبعض الأمراض الخطيرة (مثل السرطانات)، التي تتطلب علاجات قوية نسبيًا "(العلاج الكيميائي، الجراحة، العلاج الإشعاعي، العلاج المناعي)، تنشأ مشكلة الجودة (رفاهية المرضى)، أكثر من كمية الحياة (الزائدة) التي تسمح بها. غالبًا ما تُفضل بعض أنواع الرعاية التلطيفية على العلاجات الكيمائية المؤلمة للمرضى الميؤوس من شفائهم. إن الفائدة التي تعود على المرضى هي التي تؤخذ في الاعتبار في كثير من الأحيان في الخيارات العلاجية.
نحن مقتنعون تمامًا بأن الصحة هي عدم وجود عجز عضوي أو وظيفي وأن المرض يمثل عبئًا؛ لكننا نتفاجأ عندما نرى مرضى أو "معاقون" بشكل خطير ومع ذلك يعلنون عن رضاهم عن حياتهم.
من جانب مقدمي الرعاية كما من جانب المرضى، فقد تطور التشكيك في جودة الحياة التي يمكن تحديدها بطريقة قياسية. يفترض النموذج الطبي أن كل واحد منا يحيل ( QOL) الخاص به إلى مستوى الأداء الأمثل. ومع ذلك، ليس لأن المرضى المسنين و / أو المعاقين لديهم استقلالية وظيفية أقل تجعل نوعية حياتهم أقل جودة من تلك التي يتمتع بها الشباب و / أو الأشخاص الأصحاء. الاعتقاد بأن هذه صورة نمطية لا تؤدي إلا إلى تعزيز التمييز (2008, Leplège). أحيانًا تكون معتقدات الأطباء والمرضى مختلفة جدًا (فيما يتعلق بفعالية العلاج مثلا). لذا من المستحسن إجراء قياسات مغايرة وذاتية التقييم لجودة الحياة قبل التدخل وبعده؛ ومقارنة التقييمات المختلفة المتعلقة بآثار العلاجات، مما سيسهل التواصل بين الأطباء والمرضى.
لعدة عقود، كان الأطباء والباحثون في مجال الصحة العامة مقتنعين بأن جودة الحياة لا تشمل الحالة الوظيفية الموضوعية للمرضى فحسب؛ بل تشمل أيضًا رفاهيتهم الذاتية، والتي تعد مكونات مميزة لجودة الحياة. وفي الواقع، فإن الارتباطات التي لوحظت بين هذين الجانبين متواضعة في المرضى كما هو الحال في عموم السكان(Cummins et al. ، 2004b ؛ Kaplan and Ries ، 2007 ؛ Okulicz Kozarin ، 2012 ؛ Rapley 2003).
ويعكس تعريف الصحة الذي تبنته منظمة الصحة العالمية (1946) التحول الواقع لتقييم جودة الحياة المرتبطة بعلم الصحة عند المرضى فهي تُعرَّف الصحة على أنها حالة من الرفاهية الكاملة وليست مجرد غياب المرض.
وبناء عليه لا يتم تقييم تأثيرات العلاجات على الحالة الوظيفية للمرضى فحسب؛ بل أيضا على صحتهم الشخصية.
3.2 وجهات النظر الاقتصادية والسياسة
يشير مفهوم جودة الحياة، كما تصورها الاقتصاديون والسياسيون، بالأساس إلى الظروف المادية التي تسمح بمستوى معيشي مثالي يمكن لكل فرد الوصول إليه. وقد اقترح Flanagan (1982)، المسؤول عن تقييم نوعية حياة الأمريكيين، عدم الاقتصار فقط على المؤشرات الكلاسيكية (مستوى التعليم، المستوى الاجتماعي والاقتصادي...)، ولكن أيضًا إدراج جوانب معينة من الرفاهية: الصحة، التطلعات، الشعور بالحرية...
وفي البلدان المتقدمة، أكد السياسيون منذ فترة طويلة أن حقوق المواطنين لا تقتصر على إشباع احتياجاتهم المادية. ووفقًا لرابلي (2003 ، ص 2-10) وبوجنار (2005 ، ص 561-566) ، تعترف الحكومات والمؤسسات الصحية في البلدان المتقدمة بشكل متزايد بأن المؤشرات الاقتصادية للتنمية غير كافية وأنه يجب إضافة مؤشرات نفسية اجتماعية. وعليه؛ فقد تركز البحث في البداية على الرفاه المادي (الرفاه الاقتصادي) ثم تم الاهتمام بشكل متزايد بالمؤشرات البيئية والمجتمعية (الأوبئة، مستوى التلوث، عدد الأطباء، معدل الجريمة إلخ)، ثم المؤشرات الفردية والذاتية (الرضا، السعادة إلخ). وبالتالي، سيتم استكمال المعلومات المتعلقة بالظروف المعيشية الموضوعية للأفراد بالطريقة التي يقيمون بها حياتهم ككل.
وفي ذات السياق أبرزت (لجنة قياس الأداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي CMEPSPA) التي تضم متخصصين من مختلف التخصصات (الاقتصاد، الطب، الصحة العامة، العلوم الإنسانية والاجتماعية) وتم إنشاؤها في عام 2008 من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، محدودية الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر للتقدم الاجتماعي، والبحث عن المزيد من المؤشرات ذات الصلة. وتم إجراء الموجة الأولى من الاستشارات والدراسات الاستقصائية في فرنسا وفي العديد من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في 2008-2009 ونتج عنها تقرير مؤلفة من 292 صفحة (تقرير CMEPSP بواسطة Stiglitz، Sen and Fitoussi، 2009). يوضح هذا التقرير سبب عدم اعتبار الناتج المحلي الإجمالي تقديرًا مناسبًا لرفاهية السكان، لا سيما في أبعاده البيئية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.
من الآن فصاعدًا، سوف تلعب INSEE ، بدعم من Eurostat ، دورًا رئيسيًا في التنفيذ الأوروبي لتقرير Stiglitz. وبالتالي، فإن العمل الذي سيتم تنفيذه في أوروبا بشأن صحة السكان سيكون متسقًا مع بعضه البعض؛ سوف تتعلق بالناتج المحلي الإجمالي وما بعده؛ استهلاك الأسرة ودخلها؛ عدم المساواة. وبناء مؤشرات عن حالة البيئة. وتهدف هذه اللجنة إلى أربعة أنواع من المحاورين: الحكومات والقادة السياسيين (خاصة أولئك المسؤولين عن السياسات الصحية والبيئية)، والمجتمع العلمي وخبراء الإحصاء التابعين له؛ الصحفيين ووسائل الإعلام. المجتمع المدني والمستخدمين.
4.2 منظور العلوم الاجتماعية
كان علماء الاجتماع أول من تناول المفاهيم التي من شأنها أن تصبح محددة لمفهوم جودة الحياة. لقد أوضحوا هذا المجال من الدراسة من خلال التمييز التدريجي بين مفاهيم السعادة والرفاهية الذاتية والرفاهية المادية والرضا عن الحياة. وبالنسبة لهم، يمكن أن يؤثر نوعان من العوامل على الرفاهية: العوامل "الخارجية" (المتغيرات الاجتماعية والديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية وأحداث الحياة والتكامل الاجتماعي...) والعوامل "الداخلية" (احترام الذات والفعالية المتصورة والعاطفية...). سيظهر مصطلح جودة الحياة في السبعينيات مع عمل برادبورن (1969). وسوف نبتعد أكثر فأكثر عن مفهوم السعادة ونركز أكثر فأكثر على الرفاهية وجودة الحياة.
تدرس إثنولوجيا الصحة التمثيلات والممارسات المرتبطة بالمرض والعلاج، مثل تمثيل المعالجين في مختلف البلدان وفي أوقات مختلفة. وأنثروبولوجيا الصحة وهو تخصص فرعي ظهر في الولايات المتحدة في الستينيات الأنثروبولوجيا الطبية لم يعد يقتصر على دراسة التمثيلات الثقافية والعملية الصحة، بفضل الدراسات الميدانية (التي تنطوي على التعاون بين علماء الأنثروبولوجيا ومقدمي الرعاية)، والتفاعلات بين مقدمي الرعاية والمرضى، فقد أصبحت ممارسات العاملين الصحيين والمستخدمين أهدافًا للبحث في أنثروبولوجيا الصحة (Olivier de Sardan ، 2006). لقد أدى الإيدز، على سبيل المثال، إلى ظهور دراسات أنثروبولوجية حول تصورات المرض والسلوك الجنسي للسكان واستخدام العلاجات الموازية وموقف مقدمي الرعاية.
تم إضفاء الطابع الفردي على مفهوم جودة الحياة والمفاهيم ذات الصلة تدريجياً في السنوات 1990-1995 بفضل مساهمة علماء النفس (Urzúa and Caqueo-Urizar 2012). الذين عملوا على تعميق المجالات التي يغطيها المفهوم الواسع، وسيحاولون تحديد وقياس الرضا والسعادة والرفاهية، فضلاً عن الجوانب المختلفة للصحة الجسدية والعقلية (العاطفية والمعرفية والروحية، والاجتماعية...
المرجع المعتمد
Les bases de la psychologie de la santé: Concepts, applications et perspectives
Gustave-Nicolas Fischer, Cyril Tarquinio, Virginie Dodeler
إرسال تعليق
مرحبا بارائكم ومقترحاتكم