في المراهقة: نحو فهم سليم
ينظر لموضوع المراهقة بزوايا متعددة جدا، منها نظرة شرعية ومنها نظرة نفسية ومنها نظرة اجتماعية وثقافية، بل وحتى ايديولوجية...وفي هذه السلسلة من المواضيع سنتحدث عن المراهقة من خلال طرح مجموعة من القضايا والاشكاليات التي تشغل بال الأمهات والأباء بل وعموم المربين.
نهدف من خلال سلسة "في المراهقة" إلى محاولة فهم هذه الظاهرة النمائية المعقدة، في سياق اجتماعي له خصوصياته القيمية، ومن داخل إطار علمي رصين يحاول استجلاء أهم سماتها وخصائصها، لنخلص بعدها لاقتراح مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكن الاستفادة منها عند التعامل مع المراهقين.
ونحن نحاول تحقيق ذلك فإننا نضع نصب أعيننا النقط التالية:
1. أهمية الوعي بطبيعة مرحلة المراهقة، وتأثير ذلك
2. ابراز احتياجات المراهق في علاقتها بمراحل نموه.
3. التحديات التربوية التي تفرضها مرحلة المراهقة على المربين.
سنحاول التطرق لهذه القضايا في سلسلة من المواضيع التي نقدمها لكم في مدونة نفسيتي:
1. في الوعي بالظاهرة:
يعد الوعي بظاهرة ما من أكبر التحديات التي تواجهنا في فهمها وتحليلها والبحث عن الحلول الممكنة لتجاوزها. ذلك أن وعينا بظاهرة ما غالباً ما يؤثر في تصورنا للظاهرة كما يقول أهل المنطق "فالحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وعلى هذا الأساس لابد من وعي سليم وصحيح بمرحلة المراهقة... ووعي بالتغيرات المتعددة التي تواكب وتصاحب المراهقين، وإدراك خاص للمجال الزمني الذي تغطيه هذه المرحلة؛ فهي بخلاف ما يظن كثير من غير المختصين أنها مرحلة فجائية، تحدث للطفل؛ أي أن ما تعرفه أغلب الأسر هو مرحلة المراهقة المتأخرة أو في أحسن الأحوال المراهقة المتوسطة... في حين أن تحديد مرحلة المراهقة يتطلب أولا التحديد الطولي لها (زمنيا) فهي من حيث العمر تمتد من ما قبل البلوغ إلى ما قبل سن الرشد... ولو أردنا ترجمتها رقميا لوجدنا أنها تمتد من الثامنة من العمر تقريباً إلى ما بعد واحدة وعشرين سنة تقريباً، مع الإشارة إلى أن التحديد الزمني لمرحلة المراهقة تتنازعها خلفيات متعددة (علم النفس أو القانون...)
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار التفاوتات التي تحدث حسب الجنس والمجال الجغرافي، وحسب السمات البيولوجية لكل شخص؛ بل إن العوامل الثقافية والاجتماعية صارت من الأمور التي تلعبا دورا مهما جدا في تحديد مفهوم المراهقة (فعلى سبيل المثال تشير الدراسات إلى أن المراهقة ترتبط طردا مع سن التمدرس... كما أن بعض المجتمعات الإفريقية لها طقوس خاصة في التعامل مع المراهقين وجعلهم يندمجون في الحياة الاجتماعية وتحمل أدوارها )
وعليه فإن من أكبر الأخطاء المرتكبة:
1. عزل الظاهرة عن سياقها الاجتماعي والثقافي: ونقصد هنا أن التعامل مع المراهقة في بعض الأوساط ، يرتكز فقط على الجوانب العلمية، ويغيب عن قصد أو دون قصد السياق الاجتماعي والثقافي الذي يميز كل مجتمع، ويمنحه هويته وخصائصه التي يتفرد بها عن غيره من المجتمعات، وهنا تبرز كثير من القضايا والتناقضات التي ليس محل حسمها المجال العلمي فقط؛ بل تحتاج منا مراعاة السياقات الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع، لأننا في نهاية المطاف نبني الانسان، وهذا الانسان له هوية ونظام وأدوار، ولا يمكن للعلم أن يفصل في هذه الأمور.
2. الاختزالية: حيث يتم اختزال المراهقة في المرحلة المتأخرة ويتم التغاضي عن المراهقة المتقدمة إما جهلا وإما تهوينا من أمرها، ذلك أن بعض الأسر تجهل حتى سن البلوغ الفعلي ويتم ربطه فقط بالجانب الفزيولوجي للجسم، مع العلم أن مراحل نمو الإنسان متدرجة.
وتدرج مراحل نمو الإنسان يقتضي أن هناك تراكما في نمو الطفل وان الطفرات لا تحدث في الواقع، وظهورها في حقيقة الامر راجع لعدم مواكبتنا لنمو الطفل، فالعلامات الدالة على البلوغ، هي مجرد مؤشرات وعلامات لطريق طويل يمر منه الطفل، يقوده في النهاية للانتقال بشكل سلس من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ... وهذا النمو لا يكون جسميا فقط، لأنه من الأمور المعلومة الآن أن نمو الأعضاء يصاحبه تطور وتغير في وظيفتها سواء على مستوى الأداء أو الأدوار أو الفعالية...
بمعنى أن الطفل في الوقت الذي ينمو فيه جسمه وتبرز علامات بلوغه فإن شخصيته أيضا تنمو وجانبه النفسي يتغير... عبر ما تفرزه الغدد من هرمونات تؤدي إلى إثارة مجموعة من التغيرات النفسية والسلوكية كالقلق والاضطراب والعنفوان والعواطف وغيرها من الأمور...
فالذي ينبغي لنا أن نعيه هو ما يلي :
1. ما هي الأمور الفطرية التي لا يمكن لنا التحكم في تغييرها؟
2. كيف يمكن أن نتعامل مع تلك التغيرات الفطرية، بحيث نجعلها تنصهر في نماذج مقبولة اجتماعيا وثقافياً وشرعيا؟
الجواب عن هذه النقط أمر في غاية التعقيد، لأن البعض يذهب في اتجاه إلغاء تلك التغيرات الفطرية بشكل يجعله يمارس سلطة وقمعا تجاه المراهق، في المقابل تكون هناك فئة تتمادى في الاستجابة للنوازع الفطرية وتترك تلك النوازع تقود المراهق، دون تاطير ولا تعديل مما قد يجعل تلك النوازع كالبركان الذي لا يخمد.
وعليه لابد من اتخاذ موقف وسط في تدبير تلك النقط، وضع يخول لنا إدراك التغيرات الفطرية والاعتراف لها. والبحث عن أنسب الطرق لجعلها مقبولة ومنسجمة من بنائنا الثقافي والاجتماعي، وهو أمر ممكن لكنه صعب قليلاً.. خصوصا حين يغيب الوعي بالتغيرات الفطرية أو حين لا ندرك سبل تهذيبها.
على أن هناك أمر آخر يؤثر سلباً على وعينا بمشكلة المراهقة، ألا وهو الربط المبالغ فيه بين المراهقة وموضوع الجنس... صحيح أن الوظيفة الجنسية من بين أبرز سمات مرحلة المراهقة، لكنها ليست السمة الوحيدة، فالمراهق إلى جانب الطاقة الجنسية لديه طاقات أخرى متعددة (عنفوان بدني وحركية وإبداع ووو)وهي كلها أمور ينبغي أن ننتبه إليه بحيث لا نترك كامل تركيز المراهق أو تركيزنا عليه يختزل في الجانب الجنسي.
تتمة في الجزء الموالي
شكرا على الدعم
ردحذف